ماذا تعرف عن المثقف المنافق
“المثقف… المنافق!
بقلم زكريا نمر
عزيزي المثقف، لا تقتصر ظاهرة النفاق على الأفراد الذين يتنكرون لآرائهم في محاولة لإرضاء من حولهم فحسب، بل تتسع هذه الظاهرة لتشمل جماعات بأكملها، ولا سيما النخب الثقافية والسياسية. يعتقد البعض أن النفاق هو مجرد تحريف للحقائق أو إخفاء للمشاعر، ولكنه في الواقع سلوك أكثر تعقيدًا من ذلك هو محصلة التناقضات التي يُجبر الفرد على العيش في ظلها. وهنا، لا يمكننا فصل المثقف عن هذه الدوامة التي تدور في مجتمع يصر على ربط النجاح بالمظاهر والسلطة.
إن المثقف المنافق يشبه السياسي المنافق إلى حد بعيد. كلاهما ينشأ في مجتمع يعزز من النفاق كأسلوب حياة، ويجبر الأفراد على إخفاء دواخلهم الحقيقية في سبيل الحفاظ على مكانتهم الاجتماعية أو المهنية. فكما أن السياسي يضطر إلى اتخاذ مواقف متناقضة لتحقيق مصالحه الشخصية أو الحفاظ على سلطته، فإن المثقف يضطر إلى التضحية بقيمه الفكرية والفلسفية من أجل الحصول على القبول الاجتماعي أو النفوذ الثقافي.
إن المجتمع، الذي يعاني من أزمة فكرية حقيقية، يطلب من المثقف أن يلتزم بمعاييره المتناقضة. فهو من جهة يطالب المثقف بأن يكون مثالًا للنجاح المادي والاجتماعي أن يمتلك أجمل النساء وأفضل السيارات وأجمل المنازل، وأن يوفر لأبنائه أفضل فرص التعليم والتربية. في ذات الوقت، يطالب المثقف بأن يكون مناضلًا شجاعًا في مواجهة السلطات والظلم، وأن يضع نفسه في مواجهة حاسمة مع النظام القائم. هذا التناقض الكبير بين ما يُطلب من المثقف في الحياة اليومية وما يُنتظر منه في المواقف السياسية والاجتماعية يولد حالة من الفصام الفكري والنفاق.
المثقف، في هذا السياق، يعيش في ضغط مستمر بين الالتزام بما يفرضه عليه المجتمع من صور النجاح السطحية وبين محاولاته للتصدي للسلطة الفاسدة. ولك أن تتخيل كيف أن هذا التحدي اليومي قد يؤدي إلى نوع من الانفصام في الشخصية؛ حيث يصبح المثقف مضطرا لإخفاء آراءه الحقيقية تحت قناع من التصريحات المهادنة، تمامًا كما يفعل السياسي في ظل ضغوطات السلطة. إنه يعيش في حالة من التكيف الدائم مع الواقع بدلاً من التفاعل النقدي البناء معه. وكأنما هو مطالب باستمرار بالاحتفاظ بمكانته وسط متطلبات المجتمع والنظام.
إن نفاق المثقف يتغذى من “الأنظمة الثقافية” السائدة التي تكرس هذا السلوك. في المجتمع الذي نعيش فيه، يُنظر إلى المثقف على أنه شخص “مُنير” أو “رائد”، ولكن هذا الرأي غالبًا ما يكون متحيزًا أو مبتورًا. فالمثقف الذي يُروج له في الإعلام، أو الذي يتبوأ مكانة في المجتمع الثقافي، غالبًا ما يتبع سياسات توافقية مع النظام السياسي أو مع السلطة الاقتصادية التي تهيمن على المسار الفكري والثقافي. هذا النمط من المثقف ليس أكثر من أداة في يد السلطة، يعبر عن آراء يتم اختيارها بعناية لضمان استمرار المصلحة الشخصية على حساب المبادئ العليا.
وفي اللحظات التي يواجه فيها المثقف تحديات حقيقية، فإنه يجد نفسه في معركة لا نهاية لها بين ما يقتنع به عقله وما يُملى عليه من واقع اجتماعي ضاغط. في هذه اللحظات، قد يلجأ المثقف إلى “التقية الفكرية”، فيخفي أفكاره أو يُداري آراءه، أو حتى يتبنى مواقف قد تتناقض تمامًا مع مبادئه الأصلية، وذلك حفاظًا على مصالحه أو تجنبًا للنبذ الاجتماعي. هذا الانقسام الداخلي هو الذي يدفعه إلى النفاق، حتى يصبح هذا السلوك جزءًا من شخصيته، ويصعب عليه العودة إلى مواقف صادقة وواقعية.
ولكن النفاق، على الرغم من كونه سلوكًا متكيفًا مع واقع اجتماعي فاسد، ليس إلا نتاجًا من نتائج اللاعقلانية، التي تدفع المثقف إلى تبني مواقف غير متسقة أو متناقضة. هو ليس مجرد سمة في شخصية الفرد، بل هو مظهر من مظاهر النظام الثقافي السائد الذي يفرض عليه السير في مسارات معينة بعيدًا عن التفكير النقدي والإبداعي. فالنفاق الثقافي هو النتيجة الطبيعية عندما يصبح الانسجام مع السلطة أكثر أهمية من التمسك بالمبادئ الأساسية التي يروج لها المثقف في مفاهيمه وقيمه الفكرية.
في نهاية المطاف، يمكننا القول إن النفاق ليس صفة أو سمة ثابتة للمثقف، بل هو نتيجة لضغط متواصل يمارسه المجتمع عليه ليظل في موقعه الاجتماعي والاقتصادي. المثقف المنافق هو شخص يعاني من صراع داخلي مستمر بين كونه “مواطنًا مثقفًا” وبين مطالب المجتمع التي تجبره على تقديم صور غير حقيقية عن نفسه. هذا الصراع يستمر ويستفحل حتى يصبح جزءًا من طبيعته، مما يؤدي إلى تدهور فكره وأدائه الثقافي بشكل عام.
لذا، يظل السؤال الأهم: هل نحن بحاجة إلى المثقف الذي يحافظ على “حقيقته” حتى وإن كانت مرّة؟ أم أننا بحاجة إلى مثقف يواكب العصر ويقبل الواقع كما هو، حتى وإن كان ذلك على حساب مبادئه؟ إن المثقف الحقيقي الذي يعبر عن قناعاته بشكل صادق وجريء هو ذلك الذي لا يخشى الاصطدام بالسلطة ولا بالواقع، بل يسعى دائمًا إلى خلق واقع جديد يعبر عن حريته الفكرية، بعيدًا عن النفاق الذي يقتل الإبداع والنزاهة. ولكن حتى يصل المثقف إلى هذه الدرجة من الاستقلالية الفكرية، يجب عليه أولاً أن يعترف بأن النفاق ليس مجرد آفة سياسية، بل هو سلوك ثقافي يحتاج إلى مواجهة جذرية.
إرسال التعليق