جاري التحميل الآن

الشعر الفصيح في الاغنية السودانية

بقلم/فيصل محمد صالح

لا أظن أن هناك فنان سوداني لم يتغنى بالفصحى، قد يكون بعضهم أكثر في ذلك، والبعض الآخر قدم أغنية واحدة أو إثنتين، لكن معظمهم جرب هذا النمط من الغناء.
سأبدأ بمن اعتقد أنهم كانوا الاكثر في غناء الفصحى، وقد أكون مخطئا، لكن أظن أنهم الكابلي وأبوداود وسيد خليفة. طوف الكابلي بكل مدارس الفصحى ، قديمها وحديثها، وغنى لشعراء عرب وسودانيين، وساعدته ثقافته الرفيعة في إدراك المعاني وتجويد الاداء وضبط اللغة. سمعته مع صديق مغرم به وهو يغني “أكاد لا أصدق” ..ووصل إلى المقطع “.أهذه الحروف..كل هذه الحروف”، وكسر الفاء في كلمة الحروف الاخيرة، فقفز صديقي وهو يصيح..”الله أكبر، شوف اللغة كيف ، أسة دة لو فلان داك كان شبكا ليك كلها أووفو..أوفوو”.
غنى كابلي للمتنبئ ولأبي فراس الحمداني، الخصمين اللدودين اللذين ما اجتمعا في مجلس سيف الدولة..لكنهما اجتمعا في صوت الكابلي. وأبو فراس هو ابن عم الأمير سيف الدولة الحمداني، وكان يغير من المتنبئ لأنه أقرب لسيف الدولة منه، وبينهما فتن و”مغارز”.
مدح المتنبئ سيف الدولة قائلا ..” إذا كان بعض الناس سيفا لدولة، ففي الناس بوقات لها وطبول..” فوقف أحد أعوان أبو فراس ليقول للمتنبئ ..” لقد لحنت يا شيخنا- أي أخطأت في اللغة- فإن بوق تجمع على أبواق وايس على بوقات..”..فرد المتنبئ ببرود، يشبهه..” أذهب وقل في الناس أنها صارت تجمع على بوقات…لأن المتنبئ قال ذلك..!”
غنى الكابلي للمتنبئ ” ما لنا كلنا جوٍ يا رسول..أنا أهوى وقلبك المتبول، كُلَّما عادَ مَن بَعَثتُ إِلَيها، غارَ مِنّي وَخانَ فيما يَقولُ”، وغنى لأبي فراس ..” أراك عصي الدمع شيمتك الصبر..أما للهوى نهي عليك ولا أمر..” التي غنتها أم كلثوم، وغنى “الجندول” للشاعر المصري علي محمود طه ” أين من عينيك هاتيك المجال…يا عروس البحر يا حلم الخيال، أين عشاقك سمار الليالي… أين من واديك يا مهد الجمالِ، موكب الغيد وعيد الكرنفالِ… وصدى البلبل في عرض القنالِ” وهذه غناها الموسيقار محمد عبد الوهاب. وما كان الكابلي يخشى المقارنة، فهم لحن هذه الاغنيات على سلم موسيقي مختلف ولجمهور مختلف.
ومن الشعراء السودانيين غنى الكابلي لصديق مدثر ” ضنين الوعد”… وقيل أن الشاعر الكبير الاستاذ كرف عاتبه قائلا بأن ضنين متعدية بالباء وليست لازمة، لهذا صار كابلي يغنها مرة “يا ضنين الوعد” ثم يعود ويقول “يا ضنينا بالوعد”. وغنى للحسين الحسن” حبيبة عمري..تفشى الخبر، وذاع وعم القرى والحضر..وكنت أقمت عليه الحصون…وخبأته من عيون البشر..ولكن برغمي تفشى الخبر..”..ثم عاد بعد سنوات وغنى له “طائر الهوى ” من ألحان بشير عباس ” فؤادهُ نغْم صُويدِحٌ غيداق، قد مَاج و اضْطرم و ضجّ بالاشواق، وهام بالقِمم مُحلقاً خفاق، كم عَاش فى حُلُم يا ويحهُ أفاق، ضَرّجَهُ الألم و لوعةُ الفِراق..”. وكان قد غنى لشقيقه تاج السر الحسن من قبل “آسيا وأفريقيا” ..” عندما اعزف ياقلبي الاناشيد القديمة، ويطل الفجر في قلبي على أجنح غيمة، سأغني آخر المقطع للأرض الحبيبة، للظلال الزرق في غابات كينبا والملايو، لرفاقي في البلاد الاسيوية، للملايو ولباندونق الفتية، لليالي الفرح الخضراء في الصين الجديدة، والتي اعزف في قلبي لها الف قصيدة..” كانت تلك سنوات الاحلام الكبيرة والتطلعات التي سقفها السماء، ولم يكن السودان منعزلا عن أفريقيا وحركات التحرر في آسيا وأفريقيا، وهو نفسه السودان الذي غنى بالعامية الشعبية ” يا جنا الماوماو” ..و”الله لي كوريا..يا شباب كوريا”..وهذا مطلب آخر.كما غنى لعبد الناصر، الذي أحبه، عندما زار السودان..” يوم صافحنا جمال العربي، والتقت نهضتنا بالعربي، أنت يا ناصر في أرضي هنا، لست بالضيف ولا المغترب”
أما سيدنا أبو داود فهو كتاب قائم بذاته، تشبع باللغة ومفرداتها منذ دراسته في الخلوة ” الكتاب في بعض البلاد العربية”.. وصار يعرف مواطن العنعنة والنهنهة وأماكن السلطنة والتطريب، يفعل ذلك بوجه مريح لا تعب فيه، وصوت نظيف لطيف “كأنه يغسله قبل الغناء به” على قول عمر الحاج موسى في أهل كسلا، حياهم الله، وبلا تكشيرة وشد عروق.
أسمعه يا هداك الله، وهو يغني لعبد المنعم عبد الحي..” يانديما عب من كأس الصبا، ومضي يمشي الهويني طربا، بت أشكوه لنجم في الليالي لمعّ، ولغيم عندما رق لحالي دمعّ، ولطل فوق زهر كاللآلي جمعّ، ونديمي عب من كأس الصبا وسقاني، ثم عاف الكأس عاف الملعبا … وجفاني..”
روى علي المك عن “مختار” وهو سيد معجبي أبو داود، أنه كان يدخل حيث يغني أبو داود ..يدور ويدور ويدور في منتصف الحلقة، ثم يمسك بجلبابه ويمزقه من أعلى لأسفل…ويخرج راضيا . ولو تابعت نهنهة أبو داود في هذه الاغنية لعرفت “موضع تمزيق جلابية مختار”.
وغنى لعوض أحمد ” أوتذكرين صغيرتى..وربما لا تذكرين، الخمسة الأعوام قد مرت ، ومازال الحنين، الشوق والأحلام ما زالت تؤرق.. والسنين، هل كان حبا يا ترى أم كان وهم الواهمين؟..هل كان حبا لاهيا..أم كان شيئا كاليقين، هل كنت تعنين الذى لى تدعين؟.”. وغنى “أجراس المعبد” لحسين عثمان منصور ، و”هل أنت معي” ” همسات من ضمير الغيب تشجي مسمعي، وخيالات الاماني رفرفت في مضجعي، وأنا بين ظنوني وخيالي..لا أعي”، و”سنا الفجر”..وعشرات غيرها.
صعب أن يتم حصر هذه الاغاني، ولكن أحاول هنا أن أقدم نماذج، وقد يتذكر البعض أغاني أخرى لم أذكرها لضيق المكان، ولضعف الذاكرة وعدم وجود مراجع. أرجو أن تعذروني لاختم هذه الحلقات عن “أغنيات الفصحى” بحلقة ثالثة وأخيرة غدا، لنتناول موضوع آخر.

إرسال التعليق