كيف تطورت أنظمة التحقيق في البلاد العربية
لقد اختلفت الدول في إتباع أنظمة الأصول الجزائية، فمنها من اتبع النظام الاتهامي، ومنها من اتبع النظام التفتيشي، ومنها من اتبع النظام المختلط، ويمكن معرفة كل نظام على حدة.
أولًا: النظام الاتهامي
يعد النظام الاتهامي من الأنظمة القديمة من حيث الظهور التاريخي، ويرجع هذا النظام في أصوله إلى فكرة القضاء على الانتقام الفردي والحد من آثاره الضارة، وبذلك عد خطوة متطورة في تقرير ضمانات هامة للمتهم تمكنه من الدفاع عن نفسه، فهو يعكس مرحلة من مراحل التطور الديمقراطي.
فالأصل في هذا النظام أن المدعي فرد عادي كالمدعى عليه ومن حق الأفراد أن يرفعوا بأنفسهم الدعوى الجنائية ( وهذا هو مبدأ الاتهام الفردي أو الشعبي)
فالنظام الاتهامي تنطلق فيه الدعوى العامة باتهام يوجهه المتضرر لشخص ما، بحيث أن المتضرر يتحمل كل مسؤوليته في توجيه الاتهام تجاه شخص تسبب له في ضرر نتيجة جرم ارتكبه في حقه.
ونظام الاتهام الفردي كان يعطي للمضرور أو المجني عليه وحده الحق في ملاحقة فاعل الجريمة أمام القضاء، فهو الذي يقيم الدعوى ويباشرها مطالباً بعقاب الجاني وبالتعويض عن الضرر، كما أنّ له الحق في التنازل عنها أو التصالح مع الجاني دون تدخل من أجهزة السلطة العامة، ولم يكن يفرق كما هو الحال اليوم بين دعوى الحق العام التي تخص المجتمع ودعوى الحق الشخصي التي تخص المضرور من جراء الجريمة.
إن القاضي في هذا النظام هو مجرد فرد عادي أو شخص مقبول من أطراف الدعوى فيجوز لأيهم ردّه أو رفضه فيمتنع عليه عندئذ نظر الدعوى .
إن ما يعاب على هذا النظام هو الدور السلبي للقاضي في عملية سير المحاكمة، حيث تقتصر مهمته على الموازنة بين الأدلة المقدمة إليه والحكم لمن ترجح كفته دون سعي من جانبه للبحث عن الحقيقة، مما يؤدي لطمس هذه الحقيقة لأن البحث عن الأدلة يكون بيد المجني عليه وهو أمر كثيراً ما يعجز عنه لأنه عملية فنية يجهلها الكثيرون.
كما قد يعمد المتهم إذا كان ميسور الحال إلى شراء امتناع شهود الإثبات عن الشهادة، وبذلك يضل القاضي السبيل إلى الحقيقة
وفي ظل نظام الاتهام الشعبي أصبح لكل فرد من الأفراد سواء وقعت الجريمة ضده أم لم تقع الحق نيابة عن المجتمع في إقامة الدعوى على فاعل الجريمة، واتبع ذلك في اليونان القديم بالنسبة للجرائم التي تمس المدينة بأسرها، أما الجرائم ذات الضرر الفردي فإن نظام الاتهام الشخصي ظل متبعاً.
ومن محاسن هذا النظام أنه يحقق الدفاع عن مصلحة المجتمع والمجني عليه،أما عن مساوئه فهو وهن الضمير العام واتكال الأفراد على بعضهم البعض بملاحقة الجاني، ومن الممكن أن يساء استعمال هذا الحق ويصبح مجالا للكيد والانتقام.
ونظام الاتهام الشعبي قد انحسر في التشريعات الحديثة ولم يبق منه سوى مؤسسة الإخبار التي توجب على كل من شاهد جريمة أن يعلم بها السلطة العامة.
ثانيًا: النظام التحقيقي ( أو التفتيشي)
إن هذا النظام يتميز بوجود قضاة أصليين يمثلون المجتمع، ويضعون أيديهم على الدعاوى الجزائية من تلقاء أنفسهم عند علمهم بها من دون انتظار اتهام يرد من الأفراد، و التحقيق في هذا النظام يبقى سرياً.
وتمر الدعوى الجزائية في هذا النظام بمرحلتين، مرحلة التحقيق الابتدائي ومرحلة المحاكمة. ويغلب على إجراءاتها طابع التدوين والسريّة ومباشرة الإجراءات في غيبة الخصوم.
والهدف الأساسي الذي يصبو إليه النظام التحقيقي هو القبض على الجاني ومعاقبته، وبالتالي فإن سلطة الاتهام تملك حق القبض والتفتيش والتوقيف الاحتياطي. و هذا النظام لا يأخذ بمبدأ اقتناع القاضي على الرغم من الدور الإيجابي الفعال الذي أعطاه له في البحث عن الأدلة، حيث قيّده بأدلة معينة يحددها القانون ولم يترك له الحكم في الدعوى حسب عقيدته واقتناعه الشخصي.
يتميز النظام التحقيقي بأنه يحقق مصلحة المجتمع في أمنه وطمأنينته، لأنه حصر إقامة الدعوى العامة في يد النيابة العامة من شأنه الضرب على أيدي المجرمين وتحقيق القوة الرادعة للعقاب.
لكن ما يؤخذ عليه أنه يتطلب السريّة التامة في كافة إجراءات الدعوى وإباحته جميع الأساليب الممكنة في سبيل تحري الحقيقة ، كما أن تقييد حرية القاضي في تكوين اقتناعه بأدلة محددة يجعل طريقه وعراً في الوصول الى الحقيقة.
ثالثًا: النظام المختلط
تأخذ بهذا النظام أغلب التشريعات الحديثة، وتضع سلطة الملاحقة وإقامة الدعوى ومباشرتها نيابةً عن المجتمع في يد جهاز تابع للسلطة التنفيذية ومستقل عن قضاة التحقيق والحكم ، وهو النيابة العامة.
وتتمثل ملامحه البارزة في أنه يخضع مرحلة التحقيق إلى النظام السري التحقيقي، ويختار لمرحلة المحاكمة النظام الاتهامي
فهو يجمع بين النظام الاتهامي والنظام التحقيقي، ومن أهم ميزات هذا النظام أنه يفرق بين الادعاء والحكم، فقد أعطيت للنيابة العامة حق الادعاء، وللمحاكم حق الفصل في الدعوى.
أما بالنسبة لأنظمة الأصول الجزائية فقد كان النظام الاتهامي في البداية مهيمن على قواعد الأصول الجزائية، ثم تلاه النظام التفتيشي.
بيد أن كل التشريعات الحديثة تشق طريقاً وسطاً بين النظامين بحيث تأخذ بحسنات كل منهما، والبعض فيها يغلب النظام الاتهامي كما هو الحال بالتشريع الانكلوسكسوني: كالقانون الانجليزي، والسوداني، والولايات المتحدة الأمريكية.
إرسال التعليق