جاري التحميل الآن

قصة تاريخية ترويها المآذن.. لماذا لقبت القاهرة بمدينة الألف مئذنة؟

القاهرة

هنا القاهرة، المدينة التي لا تعرف النوم، حيث تمتزج الحياة الصاخبة بروح التاريخ، وتتناثر المآذن في كل زاوية كأنها مشاعل نور تحرس سماء العاصمة. وبين ضجيج الشوارع وعبق الأزقة القديمة، لا يمكن تجاهل لقبها التاريخي: “مدينة الألف مئذنة”، وهو ليس مجرد وصف شاعري، بل توثيق حقيقي لمسيرة معمارية وإسلامية عريقة تمتد لأكثر من 14 قرنًا.

البداية من الفسطاط.. أول مئذنة في إفريقيا

تعود الحكاية إلى عام 641 ميلاديًا، حين دخل عمرو بن العاص مصر، وأسس مدينة الفسطاط، لتكون العاصمة الإسلامية الأولى. هناك قرر بناء مسجد ليجمع المسلمين، وكان ذلك في قطعة أرض تبرع بها الصحابي قيسبة بن كلثوم. هكذا وُلد مسجد عمرو بن العاص، المعروف بلقب “تاج الجوامع”، وهو أول مسجد يُبنى في إفريقيا. في البداية لم يكن يحتوي على مئذنة، لكنها أُضيفت لاحقًا لتكون رمزًا للدعوة الإسلامية، ولتعبر عن قوة الإسلام في المدينة الجديدة.

مع اتساع الفسطاط وبناء مدن أخرى مثل العسكر والقطائع، بدأت المآذن تنتشر، وصارت جزءًا من الملامح العمرانية للقاهرة.

مئذنة أحمد بن طولون.. من الورق إلى الحجر

واحدة من أبرز المآذن التي تجسد روعة العمارة الإسلامية هي مئذنة مسجد أحمد بن طولون، التي تعود إلى القرن التاسع الميلادي. وتقول الروايات إن أحمد بن طولون رسم تصميمها بيده على ورق مقوى، بطريقة تشبه لفائف الورق، ثم طلب من المعماريين تنفيذها كما هي. وجاءت النتيجة تحفة معمارية فريدة، يمكن عبر صعود درجاتها الخارجية مشاهدة مشهد بانورامي خلاب للقاهرة القديمة.

الجامع الأزهر.. خمس مآذن تحكي خمسة عصور

الجامع الأزهر، الذي تأسس عام 970 ميلاديًا، يُعد منارة علم وفكر، وتزينه خمس مآذن تاريخية، كل واحدة منها تمثل عصرًا مختلفًا. من أبرزها:

مئذنة السلطان قنصوة الغوري (1510): تصميمها فريد بسلمين منفصلين لا يلتقيان.

المئذنة الأقبغاوية (1339): بناها الأمير أقبغا عبد الواحد.

مئذنة السلطان قايتباي (1461).

ومئذنتا باب الشوربة وباب الصعايدة، شيدهما عبد الرحمن كتخدا عام 1753.

كل مئذنة من هذه المآذن تحكي فصلًا من فصول التاريخ الإسلامي في مصر.

مئذنة الحاكم بأمر الله.. المبخرة الرمضانية

في قلب القاهرة، يقف مسجد الحاكم بأمر الله شامخًا منذ أكثر من ألف عام. في شهر رمضان، كانت مئذنته تتحول إلى مبخرة عملاقة، يُخزن فيها البخور طوال الأسبوع، ثم يُطلق دخانها صباح الجمعة لتعطر سماء المدينة في طقس روحاني فريد يعبّر عن أصالة التقاليد الفاطمية.

مآذن المماليك.. أبراج القوة والسلطة

في عصر المماليك، اكتسبت المآذن طابعًا جديدًا، إذ لم تكن فقط منارات للأذان، بل رموزًا للهيبة والسلطة. أبرز الأمثلة:

مئذنة مسجد السلطان الظاهر برقوق: تتكون من ثلاث مستويات متدرجة في الزخرفة، وتبرز دقة العمارة المملوكية.

مئذنتا مسجد السلطان حسن: كانتا تُستخدمان كمواقع استراتيجية خلال صراعات المماليك، وتم وضع المدافع عليهما نظرًا لإطلالتهما المباشرة على قلعة الجبل.

مسجد محمد علي.. أعلى مآذن القاهرة

لا يمكن الحديث عن مآذن القاهرة دون ذكر مسجد محمد علي بقلعة صلاح الدين، والذي شُيد عام 1848. يتميز بمئذنتين بارتفاع 84 مترًا، وهما الأعلى في العاصمة، ويمكن رؤيتهما من مختلف أنحاء القاهرة. أُطلق عليه اسم “جامع الألبستر” بسبب الألواح الرخامية التي تغطي جدرانه الداخلية والخارجية.

دور المآذن عبر العصور

لم تكن المآذن مجرّد أبنية زخرفية، بل كانت تؤدي أدوارًا حيوية. ففي الماضي، كانت أشبه بأبراج مراقبة، يُرفع منها الأذان ليسمعه الناس في غياب مكبرات الصوت. وكانت تُستخدم كذلك في إرسال الإشارات الضوئية أو إطلاق البخور في المناسبات الدينية، كما كان يُعلن منها عن بدء شهر رمضان أو قدوم الأعياد.

بين الماضي والحاضر.. المآذن تحرس القاهرة

حتى يومنا هذا، لا تزال المآذن تزين سماء القاهرة، من باب زويلة إلى مسجد المؤيد شيخ، ومن الحسين إلى الجمالية.

في كل حي وزقاق، تقف مئذنة تحكي حكاية، وتُذكرنا بأننا في مدينة تجمع بين الإيمان، والفن، والتاريخ، والحياة.

في النهاية، لقب “مدينة الألف مئذنة” ليس ماضٍ فقط، بل حاضر ومستقبل، عنوان لمدينة تحتفظ برونقها رغم زحامها، وتظل ملاذًا لعشاق التاريخ والروحانية والجمال المعماري.

نرشح لك: التمر.. غذاء رمضاني متكامل بفوائد صحية مذهلة

إرسال التعليق